-->

الأسرة في الثقافات الإنسانية المعاصرة

 بقلم: نعمان حمداوي

الأسرة في الثقافات الإنسانية المعاصرة.. المجتمع العربي نموذجاً "خلفية انتروبولوجيا ثقافية"

تعد الأسرة من أهم الوحدات الاجتماعية في المجتمع، حيث تؤثر على حياة الأفراد بشكل كبير، وتلعب دورًا حاسمًا في تكوين شخصيتهم وتطويرهم، لذلك فإن الاهتمام بدراسة الأسرة وفهمها أصبح موضوعًا متزايد الأهمية في عدد من العلوم لعل أبرزها العلوم الإنسانية على وجه الخصوص، مع أن هذا التخصيص لا ينفي بأي حال كون الأسرة موضوع لعلوم أخرى لا تدخل ضمن  باب الإنسانيات.

في السنوات الأخيرة، شهدت الدراسات العلمية تزايدًا في الاهتمام بالأسرة ودورها في حياة الأفراد والمجتمع، وذلك لأن الدارسيين أدركوا أن الأسرة تعد أساسًا لبناء مجتمع سليم وصحي، وأن تفكك الأسرة يؤدي إلى العديد من المشاكل الاجتماعية مثل الفقر والجريمة والإدمان وغيرها من الظواهر التي تعطل نماء المجتمعات الإنسانية وازدهارها.

ومن الموضوعات التي تدرسها العلوم حول الأسرة، العلاقات الزوجية وتأثيرها على الصحة النفسية للأفراد، وتربية الأطفال وأساليب التواصل بين الأسرة، والتحديات التي تواجه الأسرة في العصر الحديث، مثل الاضطرابات النفسية والتحديات الاجتماعية والتكنولوجية.

بشكل عام، فإن الاهتمام المتزايد بالأسرة في العلوم يأتي كجزء من السعي لتحسين حياة الأفراد والمجتمع، ويعكس الدور الحاسم الذي تلعبه الأسرة في تكوين الهوية الشخصية وتأثيرها على الصحة النفسية والجسدية للأفراد.

ولعل ما يجعل من موضوع الأسرة محوراً بارزا في الدراسات والأبحاث العلمية، كونها من أقدم المؤسسات الاجتماعية التي عرفتها البشرية صموداً أمام تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية هائلة، الأمر الذي يدفع بالعقل البشري للتساؤل والتفكير في السر وراء هذا الصمود المتناهي!  والبحث عن موقع الأسرة اليوم في الثقافات الإنسانية المعاصرة؟

الأسرة في الثقافات الإنسانية المعاصرة

أولاً: تعاريف ومصطلحات:

الأسرة: الأسرة هي الجماعة المعتبرة نواة المجتمع و التي تنشأ برابطة زوجية بين رجل وامرأة، ثم يتفرع عنها الأولاد، و تظل ذات صلة وثيقة بأصول الزوجين من أجداد وجدات، وبالحواشي من إخوة و أخوات، و بالقرابة القريبة من الأحفاد والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأولادهم. وتعني الحماية والنصرة وظهور رابطة التلاحم القائمة على أساس العرق والدم والنسب والمصاهرة والرضاع.[1]

إن الأسرة إذن، وحدة أساسية بالغة الأهمية في المجتمع تعمل على تكوين الإنسان وتأسيس الأخلاق والقيم الاجتماعية الأساسية، فهي تمثل المحور الذي يتم من خلاله تحويل الأفراد من حالتهم البيولوجية -حالة الطبيعة-  إلى أناس ثقافيين مسؤولين ومساهمين في بناء الحياة الاجتماعية وقيادتها.

وفي الأسرة من المفترض أن يتعلم الأفراد العلاقات الاجتماعية الصحيحة، والأخلاقيات الإنسانية الأساسية، وكذلك التفكير النقدي والابتكار والإبداع، والتعلم المتواصل، وتتوافر في الأسرة ملامح الحب والعطف والتعاون والانسجام والتسامح والصبر والمثابرة سعياً لتحقيق حرية الأفراد.

ولذلك، فإن الأسرة تمثل النواة الأساسية للمجتمع، حيث تساعد في بناء الفرد والمجتمع على حد سواء. فهي توفر بيئة آمنة ومحفزة لتطوير الأفراد، وتعمل على تحقيق الاستقرار الاجتماعي والتوازن والتنمية الشاملة. وبالتالي، يمكن القول إن الأسرة تلعب دورًا حيويًا في الحفاظ على استقرار المجتمع وتحقيق التنمية المستدامة.

في الثقافة والثقافات المعاصرة:

لعل أقدم تعريف للثقافة، وأكثرها شيوعاً، ذلك التعريف الذي وضعه "ادوارد تایلور " والذي يفيد بأن الثقافة: هي ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعادات وغيرها من القدرات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع.

وعرفها عالم الاجتماع الحديث "روبرت بيرستيد" بقول: "إن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما تفكر فيه، أو نقوم بعمله أو نمتلكه، كأعضاء في مجتمع".

وضمن هذا المفهوم، يرى "جيمس سبرادلي" J. Spradley أن ثقافة المجتمع، تتكون من كل ما يجب على الفرد أن يعرفه أو يعتقده، بحيث يعمل بطريقة يقبلها أعضاء المجتمع... إن الثقافة ليست ظاهرة مادية فحسب، أي أنها لا تتكون من الأشياء أو الناس أو السلوك أو الانفعالات، وإنما هي تنظيم لهذه الأشياء في شخصية الإنسان، فهي ما يوجد في عقول الناس من أشكال لهذه الأشياء.

الثقافة هي النمط الشامل للتفكير والسلوك والممارسات والقيم والمعتقدات والتقاليد والتعابير الفنية واللغوية التي تشترك فيها مجموعة معينة من الناس والتي تنتقل من جيل إلى آخر. ويتم تشكيل هذا النمط الثقافي بشكل طبيعي وتلقائي عن طريق التعلم والتفاعل والتأثير المستمر بين أفراد المجتمع.

وتشمل الثقافة جوانب مختلفة من حياة الإنسان، بما في ذلك الفنون والأدب والموسيقى والعلوم والدين والسياسة والاقتصاد والتاريخ والعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية.  وتتنوع الثقافات بشكل كبير من بلد إلى آخر، وحتى داخل نفس المجتمع يمكن أن تختلف الثقافات بين مجموعات مختلفة.

وتؤثر الثقافة على حياة الإنسان بشكل كبير، فهي تشكل شخصيته وتحدد نمط تفكيره وتوجهاته الفكرية والسلوكية. كما أن الثقافة تؤثر على العلاقات بين الناس وتحدد أنماط العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية المختلفة في المجتمع.

إن هذه المعاني التي تشتمل عليها لفضة الثقافة تشير إلى منطق التعددية والتنوع والاختلاف بين الأنماط الثقافية الإنسانية. ونمط اللا وحدة في الثقافة عند ربطه بالنظام الأسري يجعل من هذا الأخير مادة للتأمل العقلاني في تراكيبه وأجواءه، ذلك لكونه صمد إلى اليوم في مختلف الأجناس الثقافية الإنسانية؛ حيث أن منطق "الثقافات لا الثقافة" تحد حقيقي يصعب على أي نظام اجتماعي تجاوزه وتخطيه دون أن يعتريه التبدل الجوهري أو التشوه الكامل حد الفناء.

يذهب فرناند دومون في سياق بيان المعنى الذي تحتمله الثقافة إلى وصفها بمكان الإنسان، وقد اعتبرها في كتابه "السكن في الثقافة" إن الإنسان يسكن بعض المواطن الثقافية على سبيل الزيارة العابرة كالمدرسة والمتحف والمسرح والمكتبة الثقافة هي الموطن الذي يجوبه الإنسان ويمتحن فيه قدراته على الخلق والصنع، يقول فرناند دومون: "إن أقل ما نقول عن الثقافة أنها بيت الإنسان".

الانتروبولوجيا:

إن لفظة أنثروبولوجيا Anthropology هي كلمة إنكليزية مشتقة من الأصل اليوناني المكون من مقطعين: أنثروبوس Anthropos، ومعناه "الإنسان و لوجوس Locos، ومعناه "علم". وبذلك يصبح معنى الأنثروبولوجيا من حيث اللفظ "علم الإنسان" أي العلم الذي يدرس الإنسان.(Nicholson, 1968, P.1)

الأنتروبولوجيا، إذن، (Anthropology) هي دراسة الإنسان بصفته ككيان ثقافي واجتماعي، وتهتم بدراسة الثقافات والمجتمعات البشرية وتفاعلاتها التاريخية والاجتماعية والثقافية واللغوية. ويهتم الأنتروبولوجيون بدراسة الإنسان في جميع أنحاء العالم، وعلى مدار التاريخ، ويقومون بتحليل ثقافات وأنظمة القيم والمعتقدات والتصورات التي يتبناها الناس ويعيشون بها.

تتكون الأنتروبولوجيا من عدة تخصصات فرعية، ومن أهمها:

  1. الأنتروبولوجيا الاجتماعية: وهي تركز على دراسة التفاعلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين الأفراد والمجتمعات، والتي تؤثر في بناء المجتمع وتشكيله.
  2. الأنتروبولوجيا الثقافية: وهي تهتم بدراسة الثقافات والتقاليد والعادات والقيم التي تشترك بها مجموعات معينة من الناس، وكيفية تأثيرها في حياتهم اليومية وعلى مجتمعاتهم.
  3. الأنتروبولوجيا الفيزيائية: وتركز على دراسة التطور البشري والجسد الإنساني والسكانيات البشرية وأصولهم ونمط حياتهم.
  4. الأنتروبولوجيا اللغوية: وتهتم بدراسة اللغة وتأثيرها في بناء الهوية والتفاعلات الثقافية بين مجموعات الناس.

تعتمد الأنتروبولوجيا على البحث الميداني، والذي يتضمن الاستجواب والمراقبة المباشرة للأفراد والمجتمعات وجمع البيانات وتحليلها، ويعتبر هذا النهج من الأدوات الأساسية لفهم الثقافات البشرية والمجتمعية.

ويستخدم علم الأنتروبولوجيا في العديد من المجالات، بما في ذلك العمل الإنساني والتنموي، وتصميم السياسات العامة، والعمل الاجتماعي، والتعليم، والأعمال التجارية والتسويق، والعلاقات الدولية، والعمل الإعلامي.

في الأنتروبولوجيا الثقافية:

تعرف الأنثروبولوجيا الثقافية بوجه عام - بأنّها العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع له ثقافة معينة. وعلى هذا الإنسان أن يمارس سلوكا يتوافق مع سلوك الأفراد في المجتمع الجماعة المحيط به، يتحلى بقيمه وعاداته ويدين بنظامه ويتحدث بلغة قومه.

ولذلك، فإن الأنثروبولوجيا الثقافية: هي ذلك العلم الذي يهتم بدراسة الثقافة الإنسانية، ويعنى بدراسة أساليب حياة الإنسان وسلوكاته النابعة من ثقافته وهي تدرس الشعوب القديمة، كما تدرس الشعوب المعاصرة.[2]

 تمثلات الأسرة في الثقافات الإنسانية المعاصرة:

الأسرة في العالم العربي:

لا تزال الأسرة رغم التحولات العميقة التي شهدتها المجتمعات في العالم المعاصر تشكل الوحدة الاجتماعية الأساسية في البناء الاجتماعي وتقوم بأداء وظائف عديدة ومتنوعة في آن، منها ما يتعلق بتأسيس الروابط الاجتماعية والحفاظ عليها، ومن ثم الحفاظ على النوع البشري من الناحية البيولوجية والثقافية. ومنها ما يخص توفير السند العاطفي والاقتصادي الذي لا غنى عنه لنمو وتطور أفرادها ومشاركتهم في حياة المجتمع كأعضاء فاعلين.[3]

كما تمثل من جهة ثانية الوعاء الحافظ للثقافة بكل مكوناتها المادية وغير المادية، وتقوم بنقلها من جيل إلى آخر عبر التاريخ موفرة بذلك فرص التواصل الاجتماعي والثقافي بين الأجيال والمجتمعات.

تواجه الأسرة اليوم وبخاصة في مجتمعاتنا العربية رياح التغير التي تحمل معها تحديات عديدة يأتي في المقدمة منها التكيف مع التغيرات الكبرى في الأدوار والوظائف وفي العلاقات التي تفرضها عملية التغير الاجتماعي، فضلا عن توفير ظروف الحياة الكريمة لأعضائها. ويمكننا تلخيص هذه التحديات في النقاط التالية:[4]

  1. تحقيق التماسك والاستقرار.
  2. النجاح في استيعاب التغيرات العميقة في الأدوار والعلاقات والوظائف.
  3.  النجاح في أداء وظيفتها في التنشئة والرعاية والتوجيه.
  4. ضمان تعليم الأبناء وتوفير فرص اندماجهم في الحياة الاجتماعية كأعضاء فاعلين.

لقد كان الهدف الرئيسي من وراء اهتمام الباحثيين بالنظام الأسري في مختلف الثقافات الإنسانية هو ترسيخ موقع الأسرة وتعزيز دورها في التربية على حقوق الإنسان ونشر الوعي بها وممارستها على مستوى الأسرة، حيث ينبغي أن تسود علاقات المساواة والتكافؤ، ورفض كافة صيغ التمييز، وكل أشكال العنف) الرمزي والمادي)، وترسيخ المعاملة العادلة التي تحفظ لجميع أفراد الأسرة الاحترام والكرامة وفرص تنمية قدراتهم، فضلا عن ضمان الرعاية والغذاء والمأوى لكل أفرادها. وقد جاء هذا التركيز على الأسرة في نشر الوعي بحقوق الإنسان والديمقراطية كونها الممر الحتمي لبناء مجتمع تسوده قيم العدالة والمساواة، وتصان فيه كرامة الإنسان بصرف النظر عن الجنس والعمر وتتوفر فيه الفرص المتكافئة لمشاركة الجميع دون تمييز في بناء مجتمع إنساني متوازن.[5]

فكيف يمكن تحديد طبيعة سيرورة التحولات البنيوية التي تعرفها الأسرة في البلاد العربية؟ وما علاقة ذلك بالتحولات الحادثة في التشكيلات الاجتماعية كوحدات بنيوية كلية؟ ما طبيعة النظام الاجتماعي السائد في البلدان العربية واليات اشتغاله وكيف يؤثر ذلك على التحولات التي تحدث في بنية الأسرة ووظائفها؟ وما العوامل التي تطبع حركية التغيير في مؤسسة الأسرة والمجتمع عموما؟

إن الوقوف عند التمثلات الأنتروبولوجيا الثقافية للأسرة في الثقافات الإنسانية العربية المعاصرة، يستلزم منا البحث أولا في إشكالية المفهوم في سياقه العربي. إذ إن هذا النطاق يعرف تداخلا قوياً بين مفهوم الأسرة ومفهوم العائلة، على اعتبار أنهما كل واحد ومختلف في الآن نفسه.

فإذا جئنا إلى أصل كلمة أسرة نجد زهير حطب يحددها على النحو التالي: "كلمة أسرة تحمل في معناها صورة مصغرة للحياة الاجتماعية في العصر الجاهلي، حينما كان الناس مرتبطين بالقبائل والعشائر والبطون (...) ومن هنا فإن كلمة أسرة هي في نطاق معنى الفعل أسر، ولعلها صيغة أخرى للفعل أزر بمعنى ناصر وقوى وشدد بتبديل السين بالزاي وهذا أمر معروف وكثير الحدوث في اللغة العربية (...) أما كلمة عائلة فمستحدثة مشتقة من الفعل "عال" وتكشف لنا عن المعنى المراد بها كونها مجموعة من الأفراد الذين يعيلهم معيل أو كاسب.[6]

لعل أكثر ما يثير الانتباه في عدد كبير من الدراسات العربية حول الأسرة هو استعمالها غير التمييزي لمفهومي الأسرة والعائلة، وكأنهما يغطيان نفس الحقل الدلالي ويستوعبان نفس الحقائق الاجتماعية، فيما يميل البعض إلى استعمال أحد المفهومين بشكل حصري دون توضيح دلالة المفهوم. [7]

وبهذا الصدد، يفضل الطاهر لبيب استخدام كلمة أسرة بدل كلمة "عائلة" لدلالتها على أصغر وحدة اجتماعية في سلم النسب، وتخصيص كلمة "عائلة للحديث عن الجماعة القرابية الكبيرة أو العائلة الممتدة، مثلما فعل هشام شرابي لدى دراسته للنظام الأبوي في المجتمعات العربية.[8]

إن الأسرة العربية على اختلاف المجتمعات العربية التي تحتملها لفضة (عربية) تبقى في سياق التعدد والاختلاف محافظة على الرؤية التماسكية لمنظومة الأسرة، حيث يعتبرها لبيب "رؤية وظيفية أساساً" جوهرها تبرير تراتبية الأدوار من منطلق المصالح أو القيم، ويميز داخل هذه الرؤية بين مقاربتين هما: المقاربة الدينية التي ترتكز على العلاقات والقيم وأنماط السلوك المرتبطة بالإسلام والمقاربة التنشيئية التي ترتكز على الوظائف التربوية والتأهيلية التي تقوم بها الأسرة. لكن، يعتقد "العياشي عنصر" من جهته أن المقاربتين ليستا منفصلتين؛ بحيث تشكلان نموذجين مختلفين، بل مجرد تنويعات تنضوي تحت مظلة مقاربة واحدة هي المقاربة التنشيئية سواء أخذت طابعا دينيا أو علمانيا.

الأنظمة الأبوية للأسرة في الثقافات الإنسانية العربية المعاصرة:

عرفت المجتمعات البشرية على اختلاف ثقافاتها وتجاربها وظروفها خلال العصور الماضية نمط العائلة الأبوية حيث يحتل الأب الموقع المركزي في بناء العائلة، ويحتكر السلطة والنفوذ والتصرف في حياة جميع الأفراد ومستقبلهم. هذا الشكل ما يزال قائما وإن كانت قد اعترته تغيرات عديدة سواء في بناء أو وظيفة العائلة بسبب عوامل عديدة، منها خاصة التوسع العمراني والتطور الصناعي وانتشار التعليم ونمو الوعي. ذلك أن تقسيم العمل وتوزيع الأدوار على أساس الجنس الذي ظهر منذ استقرار المجتمعات البشرية الأولى بعد اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوان ما يزال قائما لحد اليوم.

إن هذا النمط من الأنظمة الأبوية للأسرة والقائمة على تقسيم العمل على أساس الجنس لا تزال هي الصبغة المهيمنة على الأسرة العربية فقد ضلت وفية لطابعها التقليدي رغم عواصف التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بل حتى مع الغزو الثقافي الذي تلعب فيه وسائل الاعلام دورا هاما وبارزا.

فإذا فحصنا التاريخ البشري سنجد بأن ظهور نمط تقسيم العمل القائم على الجنس كان منذ عصر ما قبل التاريخ، وحتى قبل ظهور المجتمعات الزراعية الأولى كانت المرأة تقوم بمهام قطف الثمار، ورعاية شؤون البيت وبالأساس رعاية الأطفال، بينما كان الرجال يغادرون في رحلات صيد طويلة الأمد، ومنذ ذلك الحين ومع ظهور المجتمعات الزراعية المستقرة ترسخ أسلوب تقسيم العمل الجنسي وأصبح نمطا اجتماعيا مؤسسيا وسائدا يعاد إنتاجه من خلال منظومة المعايير والقيم والتقاليد المجتمعية التي يقوم عليها المجتمع الأبوي.

وهكذا فإن معظم المجتمعات العربية رغم اختلافاتها النسبية من حيث مستوى النمو والتعقيد، ودرجة التطور التقني والاقتصادي، قد حددت أدوارا معينة خاصة بالرجال وأخرى خاصة بالنساء. وقد حصل الذكور بفعل عمليات اجتماعية معقدة على مراكز متميزة في العائلة؛ ربما بسبب الدور الذي يقومون به في الإعالة والمخاطر التي يتحملونها جراء ذلك، وارتبط بهذا الدور نمط معين من توزيع القوة وممارسة السلطة داخل التنظيم العائلي، بحيث احتكر الرجال القدر الأوفر من سلطة اتخاذ القرار وإدارة شؤون الأسرة أو العائلة، بينما تراجع دور المرأة ومركزها لدى استقرار المجتمعات بعد أن كانت مهيمنة ولها اليد الطولى.

إن النظام الأبوي السائد اليوم في المجتمعات العربية ليس أبويا تقليديا خالصاً ولا حداثيا كامل الحداثة، بل إنه حسب  هشام شرابي مفهوم يشير إلى البنية الاجتماعية، السياسية، والنفسية التي يتميز بها المجتمع العربي المعاصر. إنه مفهوم ذو ازدواجية نظرية مهمة، لأنه يعبر عن تشكيلة اجتماعية هجينة ناتجة عن الانتقال من نظام تقليدي إلى نظام حديث دون استكمال عملية التحول أو الانتقال بصفة نهائية. وهو الأمر الذي جعل المجتمع العربي المعاصر يبدو في هذه الصيغة التي يجمع فيها بين التقليد والحداثة دون أن يكون أي منهما. إنه نظام يعيش الماضي في الحاضر والحاضر في الماضي، إنه مزيج بين الأصالة والمعاصرة، نظام غريب يختلف عن أي نظام.[9]

ويفسر شرابي نشأة هذا النظام الهجين بالصدمة التي تعرض لها المجتمع العربي عند التقائه بالحضارة الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لكن تلك الصدمة لم تؤد إلى تغيير القديم بل أدت إلى تجديده دون تغييره جذريا".

المراجع المعتمدة:

[1]  وهبة الزحيلي. الأسرة المسلمة في العالم المعاصر، دار الوعي، ط 5، 2012، ص19..

[2]  بیلز، رالف: هو يجرا، هاري (1977) مقدمة في الأنثروبولوجيا العامة، ترجمة : محمد الجوهري وآخرون، دار النهضة المصرية، القاهرة، ص 21.

[3] Jan Pahl, Money and Marriage. Macmillan, London 1989, 1.

[4] United Nations, Family: challenges for the future. UN. Publications, sales, No E99 IV P4.

[5] العياشي عنصر، الأسرة في الوطن العربي: آفاق التحول من الأبوية..  إلى الشراكة، ص 2.

[6]  زهير حطب، تطور بنى الأسرة العربية الجذور التاريخية والاجتماعية لقضاياها المعاصرة، بيروت، معهد الإنماء العربي،  ص 79 و102.

[7]  يعقوب قبائجي منظومة القيم العائلية في الوطن العربي:  محاولة نقدية المستقبل العربي، العدد 308، ص 103 و  128.

[8]  الطاهر لبيب، الأسرة العربية مقاربات نظرية المستقبل العربي، السنة ،27، العدد 308، ص 71.

[9]  هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992 الطبعة الإنكليزية صادرة في 1988.

 

إرسال تعليق

شاركنا رأيك في الموضوع

أحدث أقدم